أودّ أن أقول نبذة بسيطة عن مرجع كلمة نرجسيّة، من أين إستلهمت..فكلمة نرجسيّة أخذت من الأدب الأغريقيّ، أو إن شئت فقل الأساطير الأغريقيّة.. لأنّ الخرافة غلبت على آدابهم بعد أن أضناهم الجهد بعداً عن الله سبحانه وتعالى فباتوا يبحثون عن السعادة في خيالاتهم {ومن أعرض عن ذكري فإنّ له معيشة ضنكا}.. السبب الذي جعل المسلمين يحجمون عن ترجمة آثارهم لوثنيّتها ولإيغالها بعيداً عن الحق.ّ
¤ أسطورة النرجسيّة..
كان في عهد الإغريق فتى يدعى نارسيس -بمعنى نرجس- قد بلغ الحدّ في جماله فإفتتن به الشباب والشابّات على حدّ سواء، لكنّه لم يبال بهم..دعت عليه إحدى الفتيات اللاتي إحتقرهنّ فإستجابت لدعوتها الآلهة نمسيس- عياذاً بالله-.. فقضت عليه أن يشغف هو بنفسه.. فبات لا يبرح الغدير يتملّى من صورة وجهه المنعكسة على سطح الماء...عشق نفسه وعشقها إلى أن ترك طعامه وشرابه مكتفياً بالنظر إلى نفسه حتّى مات..الآلهة على حسب إعتقادهم المختلّ لم تكتف بهذا الحدّ، بل حوّلت الفتى نارسيس بعد موته إلى زهرة نرجس، ومن هنا جاءت التسمية لكلّ من أحب نفسه، أو أصيب بمرض الأنا بالنرجسي.
¤ أعراض النرجسي...
الطابع العامّ للشخصيّة النرجسيّة هي الصلابة وسرعة الكسر...بمعنى إنعداميّة التكيّف والتمشي مع الأحداث، وبالتالي تبلور الإنهزاميّتين، الصغرى متمثّلة في الذات والكبرى متمثّلة في الجماعة.
إضافة لما قيل من تضخيم هذه الشريحة من الناس لذواتهم فهم يشعرون بأنّهم محطّ أنظار غيرهم، وهذا ما بنى المثاليّة في طبائعهم الظاهرة، وتقاسيم مشاعرهم الباطنة..هم على قدر وافر من الخيال المجنح والبعد عن أرض الواقع..الطموح..النبوغ..الإلهام.. الأخلاق الفريدة.. الحبّ النقيّ..الحساسية الزائدة..فنّ التعامل... وليس وهماً ما نقول، بالفعل هم أيضاً على قدر وافر من النجاحات لفرط إحساسهم كما قلنا بالأهميّة....... وهذا هو الدافع.
مع كلّ هذه الرفعة وعلوّ الشأن إلا أنّ ذلك لم يخلّصهم من علاقاتهم المضطربة مع مجتمعاتهم.. وهذا حال من يبخل بعطائه على غيره، في حين يسأل كمال العطاء بوجه عامّ من الغير، وإن كان العطاء العاطفيّ ألزم في حقّ النرجسيّ... لم يخلّصهم ذلك من توسيع دائرة المعارف لإثبات وجودهم... لم يخلّصهم ذلك من ردّات فعلهم القويّة تجاه النقد الموجّه لهم.. فالنرجسيّ في عين نفسه شخص ملائكيّ -إن صحّ القول- لا يخطئ.. وهذه الردّات العنيفة تأتي على شكل خجل شديد..ربّما عزلة وإنطواء..ربّما غضب لا يوصف..ربّما إحباط، وقد يصل حدّ الإكتئاب...
غالباً ما يفسّر النرجسيون إنهزامهم برغم قدراتهم ونجاحاتهم بتأخّر المحيط من حولهم عن مستواهم المتفرّد حسّاً أو معنى.
¤ الأدب والنرجسيّة..
* المتنبي عاشق الذات ومريض الأنا..
أعظم نموذج عرفه الأدب هو المتنبي، له من القوّة في الحضور الشيء الكثير مرسوماً على قناعه الذي أخفى به وجهه الحقيقيّ..سرعة التأثّر..عدم الإستقرار..الإنفعال..التقلّب..الإندفاع ..العناد..العاطفيّة.. قلق التشاؤم..نعم، لقد إستطاع المتنبي بجدارة أن يخفي كلّ ذلك على من يجهله، لكنّه فشل بالمقابل عن إخفاء نواقصه على الحذّاق صنّاع الأدب الذين إستطاعوا بكلّ يسر قراءة وفاء المتنبي لشخصيّته المتعبة تماماً كما وصفها هو في قوله:
على قلق كأنّ الريح تحتي *** أوجّهها جنوباً أو شمالاً
فعلى قدر تذبذبه وإعترافه بالقلق إلا أنّه مازال يرى في نفسه القدرة على توجيه مساره أنّى شاء.
أيّ محل أرتقي *** أيّ عظيم أتّقي
وكلّ ما خلق الله *** وما لم يخلقي
محتقر في همّتي *** كشعرة في مفرقي
يلي هذا النموذج:
ولادة...... معشوقة ابن زيدون والتي روي أنّها كتبت بماء الذهب على عاتقها الأيمن:
أنا والله أصلح للمعالي *** وأمشي مشيتي وأتيه تيها
قال فيها ابن زيدون نونيّته المشهورة التي هزّ بها أبواب ملاعب التاريخ إلى وقتنا الحالي، ومطلعها:
أضحى التنائي بديلاً عن تدانينا *** وناب عن طيب لقيانا تجافينا
أمّا في العصر القريب، فشاعر المرأة نزار قباني هو نموذج النرجسيّة بلا منازع، ذلك الدمشقيّ الراقي المنحطّ، والمثقّف الجاهل المتناقض حتى بعبارات نعت، والمتتبّع لعبارات شعره سيشعر بداية بتلك النزعة النرجسيّة، ثمّ لن يلبث حتّى يتأكّد من قشابته.
ومع أنّ نزار إستطاع بحرفيّته اللغويّة المنقطعة النظير تحويل وحشيّ الكلمات إلى كلّ سهل يروي القلوب ثم يعطشها، فإنّ العديد من الأقلام هجته لزيفه الظاهر، ولأنّ جميع البهاء في لوحات نزار قبّاني الفنيّة لم يكن إلا ليشبع نهم نزار قباني.. ونزار قباني فقط.
يكفينا من زيفه ما قال: أنا لا أعرف ما الشعر، ولا أعرف كيف أكتبه، تماماً كما لا تعرف السمكة كيف تسبح، والعصفور كيف يطير، إنّ الشعر وفق داخليّ يتجاوز حدود التعريف والتحديد، فالشعر ليس مادة كيميائيّة تدخل في نطاق التعريف والتحليل المعمليّ، ولكنّه كائن زئبقيّ يأخذ في كلّ لحظة شكلاً جديداً.
الكاتب: قويت الشلهوب.
المصدر: موقع رسالة المرأة.